فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏:‏ وَإِِيَّاكَ رَبَّنَا نَسْتَعِينُ عَلَى عِبَادَتِنَا إِِيَّاكَ وَطَاعَتِنَا لَكَ وَفِي أُمُورِنَا كُلِّهَا- لَا أَحَدًا سِوَاكَ، إِِذْ كَانَ مَنْ يَكْفُرُ بِكَ يَسْتَعِينُ فِي أُمُورِهِ مَعْبُودَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ مِنَ الْأَوْثَانِ دُونَكَ، وَنَحْنُ بِكَ نَسْتَعِينُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ‏.‏

كَالَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا‏.‏

فَإِِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا مَعْنَى أَمْرِ اللَّهِ عِبَادَهُ بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْمَعُونَةَ عَلَى طَاعَتِهِ‏؟‏ أَوَجَائِزٌ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، أَنْ لَا يُعِينُهُمْ عَلَيْهَا‏؟‏ أَمْ هَلْ يَقُولُ قَائِلٌ لِرَبِّهِ‏:‏ إِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ، إِِلَّا وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ مُعَانٌ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّاعَةُ‏.‏ فَمَا وَجْهُ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ مَا قَدْ أَعْطَاهُ إِِيَّاهُ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ إِِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِِلَيْهِ، وَإِِنَّمَا الدَّاعِي رَبَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ إِِيَّاهُ، دَاعٍ أَنْ يُعِينَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ، دُونَ مَا قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فِيمَا خَلَا مِنْ عُمْرِهِ‏.‏ وَجَازَتْ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ إِِعْطَاءَ اللَّهِ عَبْدَهُ ذَلِكَ- مَعَ تَمْكِينِهِ جَوَارِحَهُ لِأَدَاءٍ مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهِ، فَضْلٌ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ، وَلُطْفٌ مِنْهُ لَطَفَ لَهُ فِيهِ‏.‏ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ التَّفَضُّلَ عَلَى بَعْضِ عَبِِيدِِِهِ بِالتَّوْفِيقِ- مَعَ اشْتِغَالِ عَبْدِهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَانْصِرَافِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ، وَلَا فِي بَسْطِهِ فَضْلَهُ عَلَى بَعْضِهِمْ، مَعَ إِِجْهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي مَحَبَّتِهِ، وَمُسَارَعَتِهِ إِِلَى طَاعَتِهِ- فَسَادٌ فِي تَدْبِيرٍ، وَلَا جَوْرٌ فِي حُكْمٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ جَاهِلٌ مَوْضِعَ حُكْمِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ عَبْدَهُ بِمَسْأَلَتِهِ عَوْنَهُ عَلَى طَاعَتِهِ‏.‏

وَفِي أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ أَنْ يَقُولُوا‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، بِمَعْنَى مَسْأَلَتِهِمْ إِِيَّاهُ الْمَعُونَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ، أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِقَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّفْوِيضِ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ، الَّذِينَ أَحَالُوا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِأَمْرٍ، أَوْ يُكَلِّفَهُ فَرْضَ عَمَلٍ، إِِلَّا بَعْدَ إِِعْطَائِهِ الْمَعُونَةَ عَلَى فِعْلِهِ وَعَلَى تَرْكِهِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَالُوا مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، لَبَطَلَتِ الرَّغْبَةُ إِِلَى اللَّهِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى طَاعَتِهِ‏.‏ إِِذْ كَانَ- عَلَى قَوْلِهِمْ، مَعَ وُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ- حَقًّا وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِِعْطَاؤُهُ الْمَعُونَةَ عَلَيْهِ، سَأَلَهُ عَبْدُهُ أَوْ تَرَكَ مَسْأَلَةَ ذَلِكَ‏.‏ بَلْ تَرْكُ إِِعْطَائِهِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ جَوْرٌ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا، لَكَانَ الْقَائِلُ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، إِِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ لَا يَجُورَ‏.‏

وَفِي إِِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِِسْلَامِ جَمِيعًا- عَلَى تَصْوِيبِ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ إِِنَّا نَسْتَعِينُكَ ‏"‏، وَتَخْطِئَتِهِمْ قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ لَا تَجُرْ عَلَيْنَا‏"‏- دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى خَطَإِِ مَا قَالَ الَّذِينَ وَصَفْتُ قَوْلَهُمْ‏.‏ إِِذْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِ الْقَائِلِ عِنْدَهُمْ‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ إِِنَّا نَسْتَعِينُكَ- اللَّهُمَّ لَا تَتْرُكْ مَعُونَتَنَا الَّتِي تَرْكُكَها جَوْرٌ مِنْكَ‏.‏

فَإِِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، فَقُدِّمَ الْخَبَرُ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَأُخِّرَتْ مَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا بَعْدَهَا‏؟‏ وَإِِنَّمَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ بِالْمَعُونَةِ، فَمَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ كَانَتْ أَحَقَّّ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْمُعَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْعِبَادَةُ بِهَا‏.‏

قِيلَ‏:‏ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنْالْعِبَادَةَ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ إِِلَيْهَا إِِلَّا بِمَعُونَةٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَكَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا إِِلَّا وَهُوَ عَلَى الْعِبَادَةِ مُعَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَانًا عَلَيْهَا إِِلَّا وَهُوَ لَهَا فَاعِلٌ- كَانَ سَوَاءً تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ‏.‏ كَمَا سَوَاءٌ قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ إِِذَا قَضَى حَاجَتَكَ فَأَحْسَنَ إِِلَيْكَ فِي قَضَائِهَا‏:‏ ‏"‏قَضَيْتَ حَاجَتِي فَأَحْسَنْتَ إِِلَيَّ ‏"‏، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ قَضَائِهِ حَاجَتَكَ، أَوْ قُلْتَ‏:‏ أَحْسَنْتَ إِِلَيَّ فَقَضَيْتَ حَاجَتِي ‏"‏، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ الْإِِحْسَانِ عَلَى ذِكْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا حَاجَتَكَ إِِلَّا وَهُوَ إِِلَيْكَ مُحْسِنٌ، وَلَا مُحْسِنًا إِِلَيْكَ إِِلَّا وَهُوَ لِحَاجَتِكَ قَاضٍ‏.‏ فَكَذَلِكَ سَوَاءٌ قَوْلُ الْقَائِلِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِِنَّا إِِيَّاكَ نَعْبُدُ فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ، وَقَوْلُهُ‏:‏ اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ فَإِِنَّا إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ‏:‏

ولَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ *** كَفَانِي، وَلَمْ أَطْلُبْ، قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ

يُرِيدُ بِذَلِكَ‏:‏ كَفَانِي قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ أَطْلُبْ كَثِيرًا‏.‏ وَذَلِكَ- مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَمِنْ مُشَابَهَةِ بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ- بِمَعْزِلٍ‏.‏ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكْفِيهِ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَالِ وَيَطْلُبُ الْكَثِيرَ، فَلَيْسَ وُجُودُ مَا يَكْفِيهِ مِنْهُ بِمُوجِبٍ لَهُ تَرْكَ طَلَبِ الْكَثِيرِ، فَيَكُونَ نَظِيرَ الْعِبَادَةِ الَّتِي بِوُجُودِهَا وُجُودُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا، وَبِوُجُودِ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَاُ وُجُودُهَا، فَيَكُونَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا دَالًّا عَلَى الْآخَرِ، فَيَعْتَدِلَ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ، أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا فِي دَرَجَتِهِ وَمُرَتَّبًا فِي مَرْتَبَتِهِ‏.‏

فَإِِنْ قَالَ‏:‏ فَمَا وَجْهُ تَكْرَارِهِ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ‏}‏ مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نَسْتَعِينُ‏}‏، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ ‏{‏نَعْبُدُ‏}‏‏؟‏ وَهَلَّا قِيلَ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ‏}‏، إِِذْ كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ، هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِِنَّ الْكَافَ الَّتِي مَعَ ‏"‏إِيَّا ‏"‏، هِيَ الْكَافُ الَّتِي كَانَتْ تَتَصِلُ بِالْفِعْلِ- أَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏نَعْبُد‏"‏- لَوْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً بَعْدَ الْفِعْلِ‏.‏ وَهِيَ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطِبِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ، فَكُثِّرَتْ بِـ ‏"‏إِيّا ‏"‏ مُتَقَدِّمَةً، إِِذْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ إِِذَا انْفَرَدَتْ بِأَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ‏.‏

فَلَمَّا كَانَتِ الْكَافُ مِنْ ‏{‏إِِيَّاك‏}‏ هِيَ كِنَايَةَ اسْمِ الْمُخَاطَبِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ كَافًا وَحْدَهَا مُتَّصِلَةً بِالْفِعْلِ إِِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ، ثُمَّ كَانَ حَظُّهَا أَنْ تُعَادَ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ اتَّصَلَتْ بِهِ، فَيُقَالُ‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ إِِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُكَ وَنَحْمَدُكَ وَنَشْكُرُكَ ‏"‏، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْصَحَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ إِِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُ وَنَحْمَدُ ‏"‏- كَانَ كَذَلِكَ، إِِذَا قُدِّمَتْ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطَبِ قَبْلَ الْفِعْلِ مَوْصُولَةً بِـ ‏"‏إِيَّا ‏"‏، كَانَ الْأَفْصَحُ إِِعَادَتَهَا مَعَ كُلِّ فِعْلٍ‏.‏ كَمَا كَانَ الْفَصِيحُ مِنَ الْكَلَامِ إِِعَادَتَهَا مَعَ كُلِّ فِعْلٍ، إِِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ مُتَّصِلَةً بِهِ، وَإِِنْ كَانَ تَرْكُ إِِعَادَتِهَا جَائِزًا‏.‏

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ أَنَّ إِِعَادَةَ ‏{‏إِِيَّاك‏}‏ مَعَ ‏{‏نَسْتَعِينُ‏}‏، بَعْدَ تَقَدُّمِهَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، بِمَعْنَى قَوْلِ عُدَيّ بْن زَيْد الْعِبَادِيّ‏:‏

وجَاعِلِ الشَّمسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ *** بَيْنَ النَّهَارِ وَبيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا

وَكَقَوْلِ أَعْشَى هَمْدَانَ‏:‏

بَيْنَ الْأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ بَاذِخٌ *** بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وَلِلْمَولُودِ

وَذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ جَهْلٌ، مِنْ أَجْلِ أَنْ حَظَّ ‏"‏إِِيَّاكَ ‏"‏أَنْ تَكُونَ مُكَرِّرَةٌ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ، لِمَا وَصَفَنَا آنِفًا مِنَ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْم‏"‏ بَيْنَ ‏"‏لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ- إِِذِ اقْتَضَتِ اثْنَيْنِ- إِِلَّا تَكْرِيرًا إِِذَا أُعِيدَتْ، إِِذْ كَانَتْ لَا تَنْفَرِدُ بِالْوَاحِدِ‏.‏ وَأَنَّهَا لَوْ أُفْرِدَتْ بِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ، فِي حَالِ اقْتِضَائِهَا اثْنَيْنِ، كَانَ الْكَلَامُ كَالْمُسْتَحِيلِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ‏:‏ ‏{‏الشَّمْسُ قَدْ فَصَلَتْ بَيْنَ النَّهَارِ‏}‏، لَكَانَ مِنَ الْكَلَامِ خَلْفًا لِنُقْصَانِ الْكَلَامِ عَمَّا بِهِ الْحَاجَةُ إِِلَيْهِ، مِنْ تَمَامِهِ الَّذِي يَقْتَضِيه‏"‏ بَيْنَ ‏"‏‏.‏

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ ‏{‏اللَّهُمَّ إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا تَامًّا‏.‏ فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ حَاجَةَ كُلِ كَلِمَةٍ- كَانَتْ نَظِيرَة ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ – إِِلَى ‏"‏إِِيَّاكَ‏"‏ كَحَاجَةِ ‏"‏ نُعْبُدُ ‏"‏إِِلَيْهَا وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا‏"‏ إِِيَّاكَ‏"‏، إِِذْ كَانَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا جُمْلَةَ خَبَرِ مُبْتَدَإِِ، وَبَيِّنًا حُكْمُ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ حُكْمَ ‏"‏بَيْن‏"‏ فِيمَا وَفَّقَ بَيْنَهُمَا الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَنَا‏:‏ وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَة، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ‏:‏ ‏"‏ قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏‏.‏ يَقُولُ‏:‏ أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ‏.‏

وَإِِلْهَامُهُ إِِيَّاهُ ذَلِكَ، هُوَ تَوْفِيقُهُ لَهُ، كَالَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ‏.‏ وَمَعْنَاهُ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، فِي أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ التَّوْفِيقَ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَإِِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ، فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ، دُونَ مَا قَدْ مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ، وَتَقَضَّى فِيمَا سَلَفَ مِنْ عُمُرِهِ‏.‏ كَمَا فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، مَسْأَلَةٌ مِنْهُ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى أَدَاءِ مَا قَدْ كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ، فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ‏.‏

فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاكَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ، فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ، وَوَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ، مِنَ السَّبِيلِ وَالْمِنْهَاجِ‏.‏

فَإِِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَأَنَّى وَجَدْتَ الْهِدَايَةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى عَدَدُ مَا جَاءَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ‏.‏ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

لَا تَحْرِمَنِّي، هَدَاكَ اللَّهُ، مَسْأَلَتِي *** وَلَا أكُونَنْ كَمَنْ أَوْدَى بِهِ السَّفَرُ

يَعْنِي بِهِ‏:‏ وَفَّقَكَ اللَّهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِي‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ‏:‏

وَلَا تُعْجِلَنِّي هَدَاكَ الْمَلِيكُ *** فَإِِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا

فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِِنَّمَا أَرَادَ‏:‏ وَفَّقَكَ اللَّهُ لِإِِصَابَةِ الْحَقِّ فِي أَمْرِي‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ تَنْزِيلِهِ‏.‏ وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ، أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ لِلظَّالِمِينَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ‏.‏ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، وَقَدْ عَمَّ بِالْبَيَانِ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ خَلْقِهِ‏؟‏ وَلَكِنَّهُ عَنَى جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ لَا يُوَفِّقُهُمْ، وَلَا يَشْرَحُ لِلْحَقِّ وَالْإِِيمَانِ صُدُورَهُمْ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا‏}‏‏:‏ زِدْنَا هِدَايَةً‏.‏

وَلَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ‏:‏ إِِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَنَّ قَائِلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ‏.‏

فَإِِنْ كَانَ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْبَيَانِ، فَذَلِكَ مَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُكَلِّفُ عَبْدًا فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهِ، إِِلَّا بَعْدَ تَبْيِينِهِ لَهُ وَإِِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ الْبَيَانَ، لَكَانَ قَدْ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا فَرَضَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ خَلْفٌ، لِأَنَّهُ لَا يَفْرِضُ فَرْضًا إِِلَّا مُبَيَّنًا لِمَنْ فَرَضَهُ عَلَيْهِ‏.‏ أَوْ يَكُونُ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضَ الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا‏.‏

وَفِي فَسَادِ وَجْهِ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ، مَا يُوَضِّحُ عَنْ أَنَّ مَعْنَى‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، غَيْرُ مَعْنَى‏:‏ بَيِّنْ لَنَا فَرَائِضَكَ وَحُدُودَكَ‏.‏

أَوْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ‏.‏ فَإِِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَنْ تَخْلُوَ مَسْأَلَتُهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةً لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ عَمَلِهِ، أَوْ عَلَى مَا يَحْدُثُ‏.‏

وَفِي ارْتِفَاعِ حَاجَةِ الْعَبْدِ إِِلَى الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ تَقَضَّى مِنْ عَمَلِهِ، مَا يُعْلِمُ أَنَّ مَعْنَى مَسْأَلَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ إِِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَتُهُ الزِّيَادَةَ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ عَمَلِهِ‏.‏ وَإِِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، صَارَ الْأَمْرُ إِِلَى مَا وَصَفْنَا وَقُلْنَا فِي ذَلِكَ‏:‏ مِنْ أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ التَّوْفِيقَ لِأَدَاءِ مَا كُلِّفَ مِنْ فَرَائِضِهِ، فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ‏.‏

وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ، فَسَادُ قَوْلِ أَهْلِ الْقَدَرِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِأَمْرٍ أَوْ مُكَلَّفٍ فَرْضًا، فَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْمَعُونَةِ عَلَيْهِ، مَا قَدِ ارْتَفَعَتْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ حَاجَتُهُ إِِلَى رَبِّهِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ، لَبَطَلَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏‏.‏ وَفِي صِحَّةِ مَعْنَى ذَلِكَ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَسَادُ قَوْلِهِمْ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏‏:‏ أَسْلِكْنَا طَرِيقَ الْجَنَّةِ فِي الْمَعَادِ، أَيْ قَدِّمْنَا لَهُ وَامْضِ بِنَا إِِلَيْهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَاهْدُوهُمْ إِِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الصَّافَّاتِ‏:‏ 23‏]‏، أَيْ أَدْخِلُوهُمُ النَّارَ، كَمَا تُهْدَى الْمَرْأَةُ إِِلَى زَوْجِهَا، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهَا تُدْخَلُ إِِلَيْهِ، وَكَمَا تُهْدَى الْهَدِيَّةُ إِِلَى الرَّجُلِ، وَكَمَا تَهْدِي السَّاقَ الْقَدَمُ، نَظِيرَ قَوْلِ طَرْفَةَ بْنِ الْعَبْدِ‏:‏

لَعِبَتْ بَعْدِي السُّيُولُ بِهِ *** وجَرَى فِي رَوْنَقٍ رِهْمُهْ

لِلْفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ *** حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ

أَيْ تَرِدُ بِهِ الْمَوَارِدُ‏.‏

وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَا يُنْبِئُ عَنْ خَطَإِِ هَذَا التَّأْوِيلِ، مَعَ شَهَادَةِ الْحُجَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ‏"‏الصِّرَاط‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏إِِيَّاكَ نَسْتَعِين‏"‏ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى عِبَادَتِهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏"‏اهْدِنَا‏"‏ إِِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ الثَّبَاتِ عَلَى الْهُدَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ‏.‏

وَالْعَرَبُ تَقُولُ‏:‏ هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ، وهَدَيْتُهُ لِلطَّرِيقِ، وهَدَيْتُهُ إِِلَى الطَّرِيقِ، إِِذَا أَرْشَدْتَهُ إِِلَيْهِ وَسَدَّدْتَهُ لَهُ‏.‏ وَبِكُلِّ ذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 43‏]‏، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏:‏ ‏{‏اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النَّحْلِ‏:‏ 121‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏‏.‏

وَكُلُّ ذَلِكَ فَاشٍ فِي مَنْطِقِهَا، مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهَا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ، *** رَبَّ الْعِبَادِ، إِِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

يُرِيدُ‏:‏ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ غَافِرٍ‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ بَنِي ذُبْيانَ‏:‏

فَيَصِيدُنَا الْعَيْرَ الْمُدِلَّ بِحُضْرِهِ *** قَبْلَ الْوَنَى وَالأَشْعَبَ النَبَّاحَا

يُرِيدُ‏:‏ فَيَصِيدُ لَنَا‏.‏ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْهُ كِفَايَةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ ‏"‏الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏"‏، هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ الخَطَفي‏:‏

أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ *** إِِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقيمِ

يُرِيدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ أَبِي ذُؤَيْبٍ‏:‏

صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتََّى *** تَرَكْنَاهَا أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ

وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ‏:‏

فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ ***

وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَفِيمَا ذَكَرْنَا غِنًى عَمَّا تَرَكْنَا‏.‏

ثُمَّ تَسْتَعِيرُ الْعَرَبُ ‏"‏الصِّرَاطَ ‏"‏ فَتَسْتَعْمِلُهُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وُصِفَ بِاسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ، فَتَصِفُ الْمُسْتَقِيمَ بِاسْتِقَامَتِهِ، وَالْمُعْوَجَّ بِاعْوِجَاجِهِ‏.‏

وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدِي، أَعْنِي‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ‏:‏ وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ، مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ‏.‏ لِأَنَّ مَنْ وُفِّقَ لِمَا وُفِّقَ لَهُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَقَدْ وُفِّقَ لِلْإِِسْلَامِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالِانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ، وَاتِّبَاعِ مَنْهَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَاجِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ‏.‏ وَكُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ، وَكُلِّ ذَلِكَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ‏.‏ يَشْمَلُ مَعَانِيَ جَمِيعِهِمْ فِي ذَلِكَ، مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِيهِ‏.‏

وَمِمَّا قَالَتْهُ فِي ذَلِكَ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ، وَذَكَرَ الْقُرْآنَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَال‏:‏ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ الْجُعْفِيُّ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ، عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وحُدِّثْتُ عَنْ إِِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتريِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ، عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلَيٍّ، قَالَ‏:‏ ‏(‏الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ‏:‏ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ- ح- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ‏.‏ حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم‏"‏ كِتَابُ اللَّهِ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ الطَّالْقَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلَيٌّ وَالْحَسَنُ ابْنَا صَالِحٍ، جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْإِِسْلَامُ، قَالَ‏:‏ هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا عِوَجَ لَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَوْفٍ، عَنِ الْفُرَاتِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَلِكَ الْإِِسْلَامُ‏.‏

حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلَابِيُّ، عَنْ إِِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ، عَنْ أَبِي عُمَرَ الْبَزَّارِ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادِ غَيْرَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثْنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيُّ- فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ- عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُوَ الْإِِسْلَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ قَالَ‏:‏ الطَّرِيقُ‏.‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَبُو صديف الآمُلي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ، فَقَالَ‏:‏ صَدَقَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصَحَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ‏:‏ ‏"‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ الْإِِسْلَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏)‏‏.‏ وَالصِّرَاطُ‏:‏ الْإِِسْلَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِقَامَةِ، لِأَنَّهُ صَوَابٌ لَا خَطَأَ فِيهِ‏.‏ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ، أَنَّهُ سَمَّاهُ مُسْتَقِيمًا، لِاسْتِقَامَتِهِ بِأَهْلِهِ إِِلَى الْجَنَّةِ‏.‏ وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ لِتَأْوِيلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ خِلَافٌ، وَكَفَى بِإِِجْمَاعٍ جَمِيعِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلًا عَلَى خَطَئِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، إِِبَانَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيُّ الصِّرَاطِ هُوَ‏؟‏ إِِذْ كَانَ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏.‏ فَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قُلْ يَا مُحَمَّدُ‏:‏ اهْدِنَا يَا رَبَّنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ، بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ، مِنْ مَلَائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ‏.‏

وَذَلِكَ نَظِيرَ مَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنزِيلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 69‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَالَّذِي أُمِرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ أَنْ يَسْأَلُوا رَبَّهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، هِيَ الْهِدَايَةُ لِلطَّرِيقِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُ‏.‏ وَذَلِكَ الطَّرِيقُ، هُوَ طَرِيقُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي تَنزِيلِهِ، وَوَعَدَ مَنْ سَلَكَهُ فَاسْتَقَامَ فِيهِ طَائِعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُورِدَهُ مَوَارِدَهُمْ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ طَرِيقَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، الَّذِينَ أَطَاعُوكَ وَعَبَدُوكَ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعٍ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّبِيُّونَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ قَالَ وَكِيعٍ‏:‏ ‏{‏أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، الْمُسْلِمِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مَعَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّطَاعَةَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَنَالُهَا الْمُطِيعُونَ إِِلَّا بِإِِنْعَامِ اللَّهِ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَتَوْفِيقِهِ إِِيَّاهُمْ لَهَا‏.‏ أَوَ لَا يَسْمَعُونَهُ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، فَأَضَافَ كُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنِ اهْتِدَاءٍ وَطَاعَةٍ وَعِبَادَةٍ إِِلَى أَنَّهُ إِِنْعَامٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ‏؟‏

فَإِِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَأَيْنَ تَمَامُ هَذَا الْخَبَرِ‏؟‏ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِآخَرَ‏:‏ ‏"‏أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ ‏"‏، مُقْتَضٍ الْخَبَرَ عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَيْنَ ذَلِكَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏؟‏ وَمَا تِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ- فِيمَا مَضَى مِنْ كُتَّابِنَا هَذَا- عَنْ إِِجْرَاءِ الْعَرَبِ فِي مَنْطِقِهَا بِبَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ، إِِذَا كَانَ الْبَعْضُ الظَّاهِرُ دَالًّا عَلَى الْبَعْضِ الْبَاطِنِ وَكَافِيًا مِنْهُ‏.‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ بِمَسْأَلَتِهِ الْمَعُونَةَ، وَطَلَبِهِمْ مِنْهُ الْهِدَايَةَ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِمَا كَانَ مُتَقَدِّمًا قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، الَّذِي هُوَ إِِبَانَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَإِِبْدَالٌ مِنْهُ- كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى مَنْ أَمَرْنَا بِمَسْأَلَتِهِ الْهِدَايَةَ لِطَرِيقِهِمْ، هُوَ الْمِنْهَاجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِهِ آنِفًا، فَكَانَ ظَاهِرٌ مَا ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ- مَعَ قُرْبِ تَجَاوُرِ الْكَلِمَتَيْنِ- مُغْنِيًا عَنْ تَكْرَارِهِ‏.‏

كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ *** يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ

يُرِيدُ‏:‏ كَأَنَّكَ مِنْ جَمَالِ بَنِِي أُقَيْشٍ، جَمَلٌ يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ، فَاكْتَفَى بِمَا ظَهَرَ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏الْجِمَالِ ‏"‏ الدَّالِّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، مِنْ إِِظْهَارِ مَا حُذِفَ‏.‏ وَكَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ بْنُ غَالِبٍ‏:‏

تَرَى أَرْبَاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا *** إِِذَا صَدِئَ الْحَدِيدُ عَلَى الْكُمَاةِ

يُرِيدُ‏:‏ مُتَقَلَّدِيهَا هُمْ، فَحَذَفَ ‏"‏هُمْ ‏"‏، إِِذْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ أَرْبَاقَهُمْ، دَالًّا عَلَيْهَا‏.‏

وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى‏.‏ فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقَرَأَةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ ‏"‏غَيْر‏"‏ بِجَرِّ الرَّاءِ مِنْهَا‏.‏ وَالْخَفْضُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ ‏"‏غَيْرِ ‏"‏صِفَةً لِـ ‏"‏الَّذِين‏"‏ وَنَعْتًا لَهُمْ فَتْخْفِضَهَا‏.‏ إِِذْ كَانَ ‏"‏الَّذِين‏"‏ خَفْضًا، وَهِيَ لَهُمْ نَعْتٌ وَصِفَةٌ‏.‏ وَإِِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ‏"‏غَيْر‏"‏ نَعْتًا لِ ‏"‏الَّذِينَ ‏"‏، وَ‏"‏ الَّذِين‏"‏ مَعْرِفَةً وَ‏"‏غَيْرِ ‏"‏نَكِرَةٌ، لِأَن‏"‏ الَّذِينَ ‏"‏بِصِلَتِهَا لَيْسَتْ بِالْمَعْرِفَةِ الْمُؤَقَّتَةِ كَالْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ أَمَارَاتٌ بَيْنَ النَّاسِ، مِثْلُ‏:‏ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِِنَّمَا هِيَ كَالنَّكِرَاتِ الْمَجْهُولَاتِ، مِثْلُ‏:‏ الرَّجُلُ وَالْبَعِيرُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏ فَلَمَّا كَان‏"‏ الَّذِينَ ‏"‏كَذَلِكَ صِفَتُهَا، وَكَانَتْ ‏"‏غَيْر‏"‏ مُضَافَةٍ إِِلَى مَجْهُولٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، نَظِيرَ ‏"‏الَّذِينَ ‏"‏، فِي أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُوَقَّتَةٍ، كَمَا‏"‏ الَّذِينَ ‏"‏مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ- جَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ‏"‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم‏"‏ نَعْتًا لِ ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏ لَا أَجْلِسُ إِِلَّا إِِلَى الْعَالِمِ غَيْرِ الْجَاهِلِ ‏"‏، يُرَادُ‏:‏ لَا أَجْلِسُ إِِلَّا إِِلَى مَنْ يَعْلَمُ، لَا إِِلَى مَنْ يَجْهَلُ‏.‏

وَلَوْ كَانَ ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ مَعْرِفَةٌ مُوَقَّتَةٌ‏.‏ كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ لَهَا نَعْتًا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ- إِِذَا وَصَفْتَ مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً بِنَكِرَةٍ- أَنْ تُلْزِمَ نَعْتَهَا النَّكِرَةَ إِِعْرَابَ الْمَعْرِفَةِ الْمَنْعُوتِ بِهَا، إِِلَّا عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ مَا أُعْرِبَ الْمَنْعُوتُ بِهَا‏.‏ خَطَأٌ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ غَيْرِ الْعَالِمِ ‏"‏، فَتَخْفِضُ ‏"‏ غَيْرِ ‏"‏، إِِلَّا عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ الْبَاءِ الَّتِي أَعْرَبَتْ عَبْدَ اللَّهِ‏.‏ فَكَانَ مَعْنًى ذَلِكَ لَوْ قِيلَ كَذَلِكَ‏:‏ مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ، مَرَرْتُ بِغَيْرِ الْعَالَمِ‏.‏ فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيِ الْخَفْضِ فِي‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ وَجْهَيِ الْخَفْضِ فِيهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ ‏"‏الَّذِين‏"‏ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ الْمُؤَقَّتَةِ‏.‏ وَإِِذَا وُجِّهَ إِِلَى ذَلِكَ، كَانَتْ ‏"‏غَيْرَ ‏"‏مَخْفُوضَةٍ بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ ‏"‏الصِّرَاط‏"‏ الَّذِي خُفِضَ ‏"‏الَّذِينَ ‏"‏ عَلَيْهَا، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ‏:‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ، صِرَاطَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَهَذَانَ التَّأْوِيلَانِ فِي ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، وَإِِنِ اخْتَلَفَا بِاخْتِلَافِ مُعْرِبِيهِمَا، فَإِِنَّهُمَا يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا‏.‏ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهَدَاهُ لِدِينِهِ الْحَقِّ، فَقَدْ سَلِمَ مَنْ غَضَبِ رَبِّهِ وَنَجَا مِنَ الضَّلَالِ فِي دِينِهِ‏.‏

فَسَوَاءٌ- إِِذَا كَانَ سَبَبُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَرْتَابَ، مَعَ سَمَاعِهِ ذَلِكَ مِنْ تَالِيهِ، فِي أَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ لِلصِّرَاطِ غَيْرُ غَاضِبٍ رَبُّهُمْ عَلَيْهِمْ، مَعَ النِّعْمَةِ الَّتِي قَدْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا ضُلَّالًا وَقَدْ هَدَاهُمُ الْحَقَّ رَبُّهُمْ‏.‏ إِِذْ كَانَ مُسْتَحِيلًا فِي فِطَرِهِمُ اجْتِمَاعُ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ شَخْصٍ وَالْغَضَبُ عَلَيْهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَاجْتِمَاعُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ- أَوُصِفَ الْقَوْمُ، مَعَ وَصْفِ اللَّهِ إِِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِِيَّاهُمْ وَهِدَايَتِهِ لَهُمْ، وَإِِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ، بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ ضَالُّونَ، أَمْ لَمْ يُوصَفُوا بِذَلِكَ‏.‏ لِأَنَّ الصِّفَةَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا، قَدْ أَنْبَأَتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، وَإِِنْ لَمْ يُصَرِّحْ وَصْفُهُمْ بِهِ‏.‏

هَذَا، إِِذَا وَجَّهْنَا ‏"‏غَيْر‏"‏ إِِلَى أَنَّهَا مَخْفُوضَةٌ عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ ‏"‏الصِّرَاطِ ‏"‏الْخَافِضِ ‏"‏الَّذِينَ ‏"‏، وَلَمْ نَجْعَلْ ‏{‏غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ مِنْ صِفَةِ ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، بَلْ إِِذَا حَمَّلْنَاهُمْ غَيْرَهُمْ‏.‏ وَإِِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ لَا شَكَّ مُنْعَمًا عَلَيْهِمَا فِي أَدْيَانِهِمْ‏.‏

فَأَمَّا إِِذَا وَجَّهْنَا ‏{‏غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏ إِِلَى أَنَّهَا مِنْ نَعْتِ، ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏ فَلَا حَاجَةَ بِسَامِعِهِ إِِلَى الِاسْتِدْلَالِ، إِِذْ كَانَ الصَّرِيحُ مِنْ مَعْنَاهُ قَدْ أَغْنَى عَنِ الدَّلِيلِ‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ نَصْبُ ‏"‏غَيْر‏"‏ فِي ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، وَإِِنْ كُنْتُ لِلْقِرَاءَةِ بِهَا كَارِهًا لِشُذُوذِهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ‏.‏ وَإِِنَّ مَا شَذَّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأُمَّةُ نَقْلًا ظَاهِرًا مُسْتَفِيضًا، فَرَأْيٌ لِلْحَقِّ مُخَالِفٌ‏.‏ وَعَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلِ الْمُسْلِمِينَ مُتَجَانِفٌ‏.‏ وَإِِنْ كَانَ لَهُ- لَوْ كَانَ جَائِزًا الْقِرَاءَةُ بِهِ- فِي الصَّوَابِ مَخْرَجٌ‏.‏

وَتَأْوِيلُ وَجْهِ صَوَابِهِ إِِذَا نَصَبْتَ‏:‏ أَنْ يُوَجَّهَ إِِلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي ‏"‏عَلَيْهِم‏"‏ الْعَائِدَةِ عَلَى ‏"‏الَّذِينَ ‏"‏‏.‏ لِأَنَّهَا وَإِِنْ كَانَتْ مَخْفُوضَةً بِـ‏"‏ عَلَى ‏"‏، فَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏أَنْعَمْتَ ‏"‏‏.‏ فَكَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ- إِِذَا نَصَبْت‏"‏ غَيْرَ ‏"‏الَّتِي مَعَ ‏{‏الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏- ‏:‏ صِرَاطَ الَّذِينَ هَدَيْتَهُمْ إِِنْعَامًا مِنْكَ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ مَغَضُوبٍ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ وَلَا ضَالِّينَ‏.‏ فَيَكُونُ النَّصْبُ فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ، كَالنَّصْبِ فِي‏"‏ غَيْرَ ‏"‏فِي قَوْلِكَ‏:‏ مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ الْكَرِيمِ وَلَا الرَّشِيدِ، فَتَقْطَعُ ‏"‏غَيْرَ الْكَرِيم‏"‏ مِنْ ‏"‏عَبْدِ اللَّهِ ‏"‏، إِِذْ كَانَ ‏"‏عَبْدُ اللَّهِ ‏"‏مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً، وَ‏"‏غَيْرُ الْكَرِيم‏"‏ نَكِرَةٌ مَجْهُولَةٌ‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيَّ الْبَصْرِيِّينَ يَزْعُمُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ نَصَبَ ‏"‏غَيْر‏"‏ فِي ‏"‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ‏"‏، عَلَى وَجْهِ اسْتِثْنَاءِ ‏"‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ‏"‏ مِنْ مَعَانِي صِفَةِ ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، كَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَعْنَى الَّذِينَ قَرَأُوا ذَلِكَ نَصْبًا‏:‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، إِِلَّا الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ- الَّذِينَ لَمْ تُنْعِمْ عَلَيْهِمْ فِي أَدْيَانِهِمْ وَلَمْ تَهْدِهِمْ لِلْحَقِّ- فَلَا تَجْعَلْنَا مِنْهُمْ‏.‏

كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ‏:‏

وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا *** عَيَّتْ جَوَابًا، وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ

إِِلَّا أَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهُا *** وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

وَالْأَوَارِيُّ مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عِدَادِ ‏"‏أَحَدٍ ‏"‏فِي شَيْءٍ‏.‏ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ، اسْتَثْنَى ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ مِنَ ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏، وَإِِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ مَعَانِيهِمْ فِي الدِّينِ فِي شَيْءٍ‏.‏

وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْكُوفِيِّينَ، فَأَنْكَرُوا هَذَا التَّأْوِيلَ وَاسْتَخَفُّوهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ الزَّاعِمُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لَكَانَ خَطَأً أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏ وَلَا الضَّالِّينَ ‏"‏‏.‏

لِأَنَّ ‏"‏لَا‏"‏ نَفِيٌ وَجَحْدٌ، وَلَا يُعْطَفُ بِجَحْدٍ إِِلَّا عَلَى جَحْدٍ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتِثْنَاءً يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِجَحْدٍ، وَإِِنَّمَا وَجَدْنَاهُمْ يَعْطِفُونَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَبِالْجَحْدِ عَلَى الْجَحْدِ، فَيَقُولُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ‏:‏ قَامَ الْقَوْمُ إِِلَّا أَخَاكَ وَإِِلَّا أَبَاكَ‏.‏

وَفِي الْجَحْدِ‏:‏ مَا قَامَ أَخُوكَ وَلَا أَبُوكَ‏.‏ وَأَمَّا‏:‏ قَامَ الْقَوْمُ إِِلَّا أَبَاكَ وَلَا أَخَاكَ‏.‏ فَلَمْ نَجِدْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْدُومًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ بِأَفْصَحِ لِسَانِ الْعَرَبِ نُزُولُهُ، عَلِمْنَا- إِِذْ كَانَ قَوْلُهُ ‏"‏وَلَا الضَّالِّين‏"‏ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏- أَن‏"‏ غَيْرَ ‏"‏ بِمَعْنَى الْجَحْدِ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ وَجَّهَهَا إِِلَى الِاسْتِثْنَاءِ خَطَأٌ‏.‏

فَهَذِهِ أَوْجُهُ تَأْوِيلِ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، بِاخْتِلَافِ أَوْجُهِ إِِعْرَابِ ذَلِكَ‏.‏

وَإِِنَّمَا اعْتَرَضْنَا بِمَا اعْتَرَضْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ إِِعْرَابِهِ- وَإِِنْ كَانَ قَصْدُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَشْفُ عَنْ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ- لِمَا فِي اخْتِلَافِ وُجُوهِ إِِعْرَابِ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ وُجُوهِ تَأْوِيلِهِ‏.‏ فَاضْطَرَّتْنَا الْحَاجَةُ إِِلَى كَشْفِ وُجُوهِ إِِعْرَابِهِ، لِتَنْكَشِفَ لِطَالِبِ تَأْوِيلِهِ وُجُوهُ تَأْوِيلِهِ، عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَأْوِيلِهِ وَقِرَاءَتِهِ‏.‏

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِ وَقِرَاءَتِهِ عِنْدَنَا، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ بِخَفْضِ الرَّاءِ مِنْ ‏"‏غَيْرِ ‏"‏‏.‏ بِتَأْوِيلِ أَنَّهَا صِفَةٌ لِ ‏"‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم‏"‏ وَنَعْتٌ لَهُمْ- لِمَا قَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْبَيَانِ- إِِنْ شِئْتَ، وَإِِنْ شِئْتَ فَبِتَأْوِيلِ تَكْرَارِ ‏"‏صِرَاط‏"‏‏.‏ كُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ حَسَنٌ‏.‏

فَإِِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ فَمَنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَسْأَلَتِهِ أَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْمَائِدَةِ‏:‏ 60‏]‏‏.‏ فَأَعْلَمْنَا جَلَّ ذِكْرُهُ ثَمَّةَ، مَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ بِمَعْصِيَتِهِمْ إِِيَّاهُ‏.‏ ثُمَّ عَلِمْنَا، مِنْهُ مَنَّهُ عَلَيْنَا، وَجْهَ السَّبِيلَ إِِلَى النَّجَاةِ مِنْ أَنْ يَحِلَ بِنَا مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ، وَرَأْفَةً مِنْهُ بِنَا‏.‏

فَإِِنْ قِيلَ‏:‏ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ أُولَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ وَذَكَرَ نَبَأَهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا وَصَفْتُ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، الْيَهُود‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُود‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُرِّيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلَتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ‏"‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ‏"‏ قَالَ‏:‏ هُمُ الْيَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ السَّامِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رُجْلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى، فَقَالَ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُحَاصِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، الْيَهُودُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا مَعْمَرُ، عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ‏:‏ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ «سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ‏؟‏- قَالَ‏:‏ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ‏.‏ وَأَشَارَ إِِلَى الْيَهُودِ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، هُمُ الْيَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمْ الْيَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعٍ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، الْيَهُودُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ ‏{‏الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، الْيَهُودُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتُلِفَ فِيصِفَةِ الْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، إِِحْلَالُ عُقُوبَتِهِ بِمَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ، إِِمَّا فِي دُنْيَاهُ، وَإِِمَّا فِي آخِرَتِهِ، كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الزُّخْرُفِ‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وَكَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْمَائِدَةِ‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ، ذَمٌّ مِنْهُ لَهُمْ وَلِأَفْعَالِهِمْ، وَشَتْمٌ لَهُمْ مِنْهُ بِالْقَوْلِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْغَضَبُ مِنْهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ، كَالَّذِي يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِي الْغَضَبِ، غَيْرَ أَنَّهُ- وَإِِنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِِثْبَاتِ- فَمُخَالِفٌ مَعْنَاهُ مِنْهُ مَعْنَى مَا يَكُونُ مِنْ غَضَبِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِينَ يُزْعِجُهُمْ وَيُحَرِّكُهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُؤْذِيهِمْ‏.‏

لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا تَحِلُّ ذَاتَهُ الْآفَاتُ، وَلَكِنَّهُ لَهُ صِفَةٌ، كَمَا الْعِلْمُ لَهُ صِفَةٌ، وَالْقُدْرَةُ لَهُ صِفَةٌ، عَلَى مَا يُعْقَلُ مِنْ جِهَةِ الْإِِثْبَاتِ، وَإِِنْ خَالَفَتْ مَعَانِي ذَلِكَ مَعَانِي عُلُومِ الْعِبَادِ، الَّتِي هِيَ مَعَارِفُ الْقُلُوبِ، وَقُوَاهُمُ الَّتِي تُوجَدُ مَعَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ وَتُعْدَمُ مَعَ عَدَمِهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا الضَّالِّينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ ‏"‏لَا‏"‏ مَعَ ‏"‏الضَّالِّين‏"‏ أُدْخِلَتْ تَتْمِيمًا لِلْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى إِِلْغَاؤُهَا، يَسْتَشْهِدُ عَلَى قِيلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْعَجَاجِ‏:‏

فِي بِئْرِ حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرَ ***

وَيَتَأَوَّلُهُ بِمَعْنَى‏:‏ فِي بِئْرِ حُورٍ سَرَى، أَيْ فِي بِئْرِ هِلْكَةٍ، وَأَنَّ ‏"‏لَا‏"‏ بِمَعْنَى الْإِِلْغَاءِ وَالصِّلَةِ‏.‏ وَيَعْتَلُ أَيْضًا لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ‏:‏

فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تَسْخَرَا *** لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمِطَ الْقَفَنْدَرَا

وَهُوَ يُرِيدُ‏:‏ فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ تَسْخَرَ وَبُقُولِ الْأَحْوَصِ‏:‏

وَيَلْحِيِنَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لَا أُحِبَّهُ *** وَللَّهْوُ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ

يُرِيدُ‏:‏ وَيَلْحِينَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ أُحِبَّهُ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْأَعْرَافِ‏:‏ 12‏]‏، يُرِيدُ أَنْ تَسْجُدَ‏.‏ وَحُكِيَ عَنْ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ ‏"‏غَيْر‏"‏ الَّتِي ‏"‏مَعَ ‏{‏الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، أَنَّهَا بِمَعْنَى‏"‏ سِوَى‏.‏ فَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ كَانَ عِنْدَهُ‏:‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، الَّذِينَ هُمْ سِوَى الْمَغْضُوبِ وَالضَّالِّينَ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَسْتَنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ‏"‏غَيْر‏"‏ الَّتِي ‏"‏مَعَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ‏"‏، لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى سِوَى، لَكَانَ خَطَأً أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا ب‏"‏ لَا ‏"‏، إِِذْ كَانَتْ ‏"‏لَا‏"‏ لَا يُعْطَفُ بِهَا إِِلَّا عَلَى جَحْدٍ قَدْ تُقَدَّمَهَا‏.‏ كَمَا كَانَ خَطَأً قَوْلُ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏عِنْدِي سِوَى أَخِيكَ وَلَا أَبِيكَ ‏"‏، لِأَنَّ سِوَى لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ النَّفْيِ وَالْجُحُودِ‏.‏ وَيَقُولُ‏:‏ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ خَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الَّذِي زَعَمَهُ الْقَائِلُ‏:‏ أَنَّ ‏"‏غَيْرِ ‏"‏مَعَ ‏{‏الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ سِوَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، خَطَأٌ‏.‏ إِِذْ كَانَ قَدْ كَرَّ عَلَيْهِ الْكَلَامَ بِ ‏"‏لَا ‏"‏‏.‏ وَكَانَ يَزْعُمُ أَن‏"‏ غَيْرِ ‏"‏هُنَالِكَ إِِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْجَحْدِ‏.‏ إِِذْ كَانَ صَحِيحًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفَاشِيًا ظَاهِرًا فِي مَنْطِقِهَا تَوْجِيه ‏"‏ غَيْرِ ‏"‏ إِِلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَمُسْتَعْمِلًا فِيهِمْ‏:‏ ‏"‏أَخُوكَ غَيْرُ مُحْسِنٍ وَلَا مُجَمِّلٍ ‏"‏، يُرَادُ بِذَلِكَ أَخُوكَ لَا مُحْسِنٌ، وَلَا مُجَمِّلٍ، وَيُسْتَنْكَرُ أَنْ تَأْتِي‏"‏ لَا ‏"‏بِمَعْنَى الْحَذْفِ فِي الْكَلَامِ مُبْتَدَأً، وَلَمَّا يَتَقَدَّمُهَا جَحْدٌ‏.‏ وَيَقُولُ‏:‏ لَوْ جَازَ مَجِيئُهَا بِمَعْنَى الْحَذْفِ مُبْتَدَأٌ، قَبْلَ دَلَالَةٍ تَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ جَحْدٍ سَابِقٍ، لَصَحَّ قَوْلُ قَائِلٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏أَرَدْتُ أَنْ لَا أُكْرِمَ أَخَاكَ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَرَدْتُ أَنْ أُكْرِمَ أَخَاكَ‏.‏ وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ فَفِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى تَخْطِئَةِ قَائِلِ ذَلِكَ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَن‏"‏ لَا ‏"‏لَا تَأْتِي مُبْتَدَأَةً بِمَعْنَى الْحَذْفِ، وَلَمَّا يَتَقَدَّمْهَا جَحْدٌ‏.‏ وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فِي‏"‏ لَا ‏"‏ الَّتِي فِي بَيْتِ الْعَجَّاجِ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَصْرِيَّ اسْتَشْهَدَ بِهِ، بِقَوْلِهِ‏:‏ إِِنَّهَا جَحْدٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْبَيْتِ‏:‏ سَرَى فِي بِئْرٍ لَا تُحِيرُ عَلَيْهِ خَيْرًا، وَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ فِيهَا أَثَرُ عَمَلٍ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَدْرِي بِهِ‏.‏ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏طَحَنَتِ الطَّاحِنَةُ فَمَا أَحَارَتْ شَيْئًا ‏"‏، أَيْ لَمْ يُتَبَيَّنْ لَهَا أَثَرُ عَمَلٍ‏.‏ وَيَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَبْيَاتِ الْأُخَرِ، أَعْنِي مِثْلَ بَيْتِ أَبِي النَّجْمِ‏:‏

فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تَسْخَرَا ***

إِِنَّمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ ‏"‏لَا‏"‏ بِمَعْنَى الْحَذْفِ، لِأَنَّ الْجَحْدَ قَدْ تَقَدَّمَهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَكَانَ الْكَلَامُ الْآخَرُ مُوَاصِلًا لِلْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ *** وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ

فَجَازَ ذَلِكَ، إِِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْجَحْدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ، إِِذْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ جَحْدٍ تَقَدَّمَهُ بِـ ‏"‏لَا‏"‏ الَّتِي مَعْنَاهَا الْحَذْفُ، وَلَا جَائِزٌ الْعَطْفُ بِهَا عَلَى ‏"‏سِوَى‏"‏، وَلَا عَلَى حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ‏.‏ وَإِِنَّمَا ل‏"‏ غَيْرَ ‏"‏فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٌ‏:‏ أَحَدُهَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَالْآخِرُ الْجَحْدُ، وَالثَّالِثُ سِوَى‏.‏ فَإِِذَا ثَبَتَ خَطَأ‏"‏ لَا ‏"‏أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِِلْغَاءِ مُبْتَدَأٌ، وَفَسَدَ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى‏"‏ غَيْرِ ‏"‏الَّتِي مَعَ ‏{‏الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى‏"‏ إِِلَّا‏"‏ الَّتِي هِيَ اسْتِثْنَاءٌ، وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى‏"‏ سِوَى‏"‏، وَكَانَتْ ‏"‏لَا‏"‏ مَوْجُودَةً عَطْفًا بِالْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى مَا قَبِلَهَا- صَحَّ وَثَبَتَ أَنْ لَا وَجْهَ لِ ‏"‏غَيْرِ ‏"‏، الَّتِي مَعَ ‏{‏الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏، يَجُوزُ تَوْجِيهُهَا إِِلَيْهِ عَلَى صِحَّةِ إِِلَّا بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَالنَّفْيِ، وَأَنْ لَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَلَا الضَّالِّينَ ‏"‏، إِِلَّا الْعَطْفُ عَلَى ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا- إِِذْ كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا بِالَّذِي عَلَيْهِ اسْتَشْهَدْنَا- اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، لَا الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏.‏

فَإِِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَنْ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ أَنْ يَسْلُكَ بِنَا سَبِيلَهُمْ، أَوْ نَضِلَّ ضَلَالَهُمْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوَا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْمَائِدَةِ‏:‏ 77‏]‏‏.‏

فَإِِنْ قَالَ‏:‏ وَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّهُمْ أُولَاءِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّين‏"‏ قَالَ‏:‏ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ‏(‏قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏إِِنَّ الضَّالِّينَ‏:‏ النَّصَارَى‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُرِّيِّ بْنِ قُطْرِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّينَ‏"‏، قَالَ‏:‏ النَّصَارَى هُمُ الضَّالُّون‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ السَّامِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْجَرِيرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ‏:‏ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ، عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ ‏(‏سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ‏؟‏- قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ‏)‏، يَعْنِي النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَالِدُ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحِذَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ‏:‏ مَنْ هَؤُلَاءِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الضَّالُّونَ‏.‏ يَعْنِي النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّين‏"‏ قَالَ‏:‏ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّين‏"‏ قَالَ‏:‏ وَغَيْرِ طَرِيقِ النَّصَارَى الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ بِفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَلْهِمْنَا دِينَكَ الْحَقَّ، وَهُوَ لَا إِِلَهَ إِِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حَتَّى لَا تَغْضَبَ عَلَيْنَا كَمَا غَضِبْتَ عَلَى الْيَهُودِ، وَلَا تُضِلَّنَا كَمَا أَضْلَلْتَ النَّصَارَى فَتُعَذِّبَنَا بِمَا تُعَذِّبُهُمْ بِهِ‏.‏ يَقُولُ امْنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ بِرِفْقِكَ وَرَحْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الضَّالِّينَ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ إِِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ وَلَا الضَّالِّينَ ‏"‏، هُمُ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعٍ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّينَ‏"‏، النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّينَ‏"‏ النَّصَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ الضَّالِّينَ، النَّصَارَى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَكُلُّ حَائِدٍ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَسَالِكٍ غَيْرَ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، فَضَالٌّ عِنْدَ الْعَرَبِ، لِإِِضْلَالِهِ وَجْهَ الطَّرِيقِ‏.‏ فَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ النَّصَارَى ضُلَّالًا لِخَطَئِهِمْ فِي الْحَقِّ مَنْهَجَ السَّبِيلِ، وَأَخْذِهِمْ مِنَ الدِّينِ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ‏.‏

فَإِِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أَوَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ بَلَى‏!‏

فَإِِنْ قَالَ‏:‏ كَيْفَ خَصَّ النَّصَارَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَخَصَّ الْيَهُودَ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ كِلَّا الْفَرِيقَيْنِ ضُلَّالٌ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَسَمَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَنْ صِفَتِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا يَعْرِفُونَهُ بِهِ، إِِذَا ذَكَرَهُ لَهُمْ أَوْ أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ‏.‏ وَلَمْ يُسَمِّ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِِلَّا بِمَا هُوَ لَهُ صِفَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِِنْ كَانَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ زِيَادَاتٌ عَلَيْهِ‏.‏

فَيَظُنُّ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ فِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ النَّصَارَى بِالضَّلَالِ، بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّينَ‏"‏، وَإِِضَافَتِهِ الضَّلَالَ إِِلَيْهِمْ دُونَ إِِضَافَةِ إِِضْلَالِهِمْ إِِلَى نَفْسِهِ، وَتَرْكِهِ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمُ الْمُضَلَّلُونَ، كَالَّذِي وَصَفَ بِهِ الْيَهُودَ أَنَّهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ- دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ إِِخْوَانُهُ مِنْ جَهَلَةِ الْقَدَرِيَّةِ، جَهْلًا مِنْهُ بِسَعَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ وُجُوهِهِ‏.‏

وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَّهُ الْغَبِيُّ الَّذِي وَصَفْنَا شَأْنَهُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ أَوْ مُضَافٍ إِِلَيْهِ فِعْلٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَبَبٌ لِغَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ سَبَبٌ، فَالْحَقُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِِلَى مُسَبِّبِهِ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَطَأً قَوْلُ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏تَحَرَّكَتِ الشَّجَرَةُ‏"‏، إِِذْ حَرَّكَتْهَا الرِّيَاحُ، وَ‏"‏اضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ‏"‏، إِِذْ حَرَّكَتْهَا الزَّلْزَلَةُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَطُولُ بِإِِحْصَائِهِ الْكِتَابَ‏.‏

وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ يُونُسَ‏:‏ 22‏]‏- بِإِِضَافَتِهِ الْجَرْيَ إِِلَى الْفُلْكِ، وَإِِنْ كَانَ جَرْيُهَا بِإِِجْرَاءِ غَيْرِهَا إِِيَّاهَا- مَا دَلَّ عَلَى خَطَأِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ مِنْ وَصَفْنَا قَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَلَا الضَّالِّينَ‏"‏، وَادِّعَائِهِ أَنَّ فِي نِسْبَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الضَّلَالَةَ إِِلَى مَنْ نَسَبَهَا إِِلَيْهِ مِنَ النَّصَارَى، تَصْحِيحًا لِمَا ادَّعَى الْمُنْكِرُونَ‏:‏ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَفْعَالِ خَلْقِهِ سَبَبٌ مِنْ أَجْلِهِ وُجِدَتْ أَفْعَالُهُمْ، مَعَ إِِبَانَةِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ نَصًّا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ تَنْزِيلِهِ، أَنَّهُ الْمُضِلُّ الْهَادِي، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةَ الْجَاثِيَةِ‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فَأَنْبَأَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ الْمُضِلُّ الْهَادِي دُونَ غَيْرِهِ‏.‏

وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِِضَافَةُ الْفِعْلِ إِِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ- وَإِِنْ كَانَ مُسَبِّبُهُ غَيْرَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ- أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إِِلَى مُسَبِّبِهِ، وَإِِنْ كَانَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ غَيْرَهُ‏.‏ فَكَيْفَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ كَسْبًا، وَيُوجِدُهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَيْنًا مُنْشَأَةً‏؟‏ بَلْ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُضَافَ إِِلَى مُكْتَسِبِهِ، كَسْبًا لَهُ، بِالْقُوَّةِ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَالِاخْتِيَارِ مِنْهُ لَهُ- وَإِِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، بِإِِيجَادِ عَيْنِهِ وَإِِنْشَائِهَا تَدْبِيرًا‏.‏

مَسْأَلَةٌ‏:‏ يُسْأَلُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِِلْحَادِ الطَّاعِنُونَ فِي الْقُرْآنِ‏:‏

إِِنْ سَأَلَنَا مِنْهُمْ سَائِلٌ فَقَالَ‏:‏ إِِنَّكَ قَدْ قَدَّمْتَ فِي أَوَّلِ كِتَابِكَ هَذَا فِي وَصْفِ الْبَيَانِ‏:‏ بِأَنَّ أَعْلَاهُ دَرَجَةً وَأَشْرَفَهُ مَرْتَبَةً، أَبْلَغَهُ فِي الْإِِبَانَةِ عَنْ حَاجَةِ الْمُبِينِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَبْيَنَهُ عَنْ مُرَادِ قَائِلِهِ، وَأَقْرَبَهُ مِنْ فَهْمِ سَامِعِهِ‏.‏ وَقُلْتَ، مَعَ ذَلِكَ‏:‏ إِِنَّ أَوْلَى الْبَيَانِ بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ وَبِارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عَلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْبَيَانِ، فَمَا الْوَجْهُ- إِِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ- فِي إِِطَالَةِ الْكَلَامِ بِمِثْلِ سُورَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ بِسَبْعِ آيَاتٍ‏؟‏ وَقَدْ حَوَتْ مَعَانِيَ جَمِيعَهَا مِنْهَا آيَتَانِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، إِِذْ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ عَرَفَ‏:‏ مَلِكَ يَوْمِ الدِّينِ، فَقَدْ عَرَفَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى‏.‏ وَأَنَّ مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لِسَبِيلِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مُتَّبَعٌ، وَعَنْ سَبِيلِ مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ وَضَلَّ مُنْعَدِلٌ‏.‏ فَمَا فِي زِيَادَةِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْبَاقِيَةِ، مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي لَمْ تَحْوِهَا الْآيَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرْنَا‏؟‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ إِِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَمَعَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ- بِمَا أَنْزَلَ إِِلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ- مَعَانِيَ لَمْ يَجْمَعْهُنَّ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ إِِلَى نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَلَا لِأُمَّةِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ قَبْلَهُ، فَإِِنَّمَا أُنْزِلَ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْوِي جَمِيعَهَا كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ كَالتَّوْرَاةِ الَّتِي هِيَ مَوَاعِظُ وَتَفْصِيلٌ، وَالزَّبُورِ الَّذِي هُوَ تَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ، وَالْإِِنْجِيلِ الَّذِي هُوَ مَوَاعِظُ وَتَذْكِيرٌ- لَا مُعْجِزَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا تَشْهَدُ لِمَنْ أُنْزِلَ إِِلَيْهِ بِالتَّصْدِيقِ‏.‏ وَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْوِي مَعَانِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي سَائِرُ الْكُتُبِ غَيْرُهُ مِنْهَا خَالٍ‏.‏ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ‏.‏

وَمِنْ أَشْرَفِ تِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي فَضُلَ بِهَا كِتَابُنَا سَائِرَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ، نَظْمُهُ الْعَجِيبُ وَرَصْفُهُ الْغَرِيبُ وَتَأْلِيفُهُ الْبَدِيعُ، الَّذِي عَجَزَتْ عَنْ نَظْمِ مِثْلِ أَصْغَرِ سُورَةٍ مِنْهُ الْخُطَبَاءُ، وَكَلَّتْ عَنْ وَصْفِ شَكْلِ بَعْضِهِ الْبُلَغَاءُ، وَتَحَيَّرَتْ فِي تَأْلِيفِهِ الشُّعَرَاءُ، وَتَبَلَّدَتْ- قُصُورًا عَنْ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِهِ- لَدَيْهِ أَفْهَامُ الْفُهَمَاءُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِِلَّا التَّسْلِيمَ وَالْإِِقْرَارَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏.‏ مَعَ مَا يَحْوِي، مَعَ ذَلِكَ، مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، وَأَمْرٌ وَزَجْرٌ، وَقَصَصٌ وَجَدَلٌ وَمَثَلٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ فِي كِتَابٍ أُنْزِلَ إِِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ‏.‏

فَمَهْمَا يَكُنْ فِيهِ مِنْ إِِطَالَةٍ، عَلَى نَحْوِ مَا فِي أُمِّ الْقُرْآنِ، فَلِمَا وَصَفْتُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ- بِرَصْفِهِ الْعَجِيبِ وَنَظْمِهِ الْغَرِيبِ، الْمُنْعَدِلِ عَنْ أَوْزَانِ الْأَشْعَارِ، وَسَجْعِ الْكُهَّانِ وَخُطَبِ الْخُطَبَاءِ وَرَسَائِلِ الْبُلَغَاءِ، الْعَاجِزِ عَنْ رَصْفِ مِثْلِهِ جَمِيعُ الْأَنَامِ، وَعَنْ نَظْمِ نَظِيرِهِ كُلُّ الْعِبَادِ- الدَّلَالَةَ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ تَحْمِيدٍ وَتَمْجِيدٍ وَثَنَاءٍ عَلَيْهِ، تَنْبِيهَ الْعِبَادِ عَلَى عَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِظَمِ مَمْلَكَتِهِ، لِيَذْكُرُوهُ بِآلَائِهِ، وَيَحْمَدُوهُ عَلَى نَعْمَائِهِ، فَيَسْتَحِقُّوا بِهِ مِنْهُ الْمَزِيدَ، وَيَسْتَوْجِبُوا عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ نَعْتِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لِطَاعَتِهِ، تَعْرِيفَ عِبَادِهِ أَنَّ كُلَّ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَمِنْهُ، لِيَصْرِفُوا رَغْبَتَهُمْ إِِلَيْهِ، وَيَبْتَغُوا حَاجَاتِهِمْ مِنْ عِنْدِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِهِ مَا أَحَلَّ بِمَنْ عَصَاهُ مِنْ مَثُلَاتِهِ، وَأَنْزَلَ بِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ مِنْ عُقُوبَاتِهِ- تَرْهِيبَ عِبَادِهِ عَنْ رُكُوبِ مَعَاصِيهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ مِنْ سَخَطِهِ، فَيَسْلُكَ بِهِمْ فِي النَّكَالِ والنَّقِمَاتِ سَبِيلَ مَنْ رَكِبَ ذَلِكَ مِنَ الْهُلَّاكِ‏.‏

فَذَلِكَ وَجْهُإِِطَالَةِ الْبَيَانِ فِي سُورَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَفِيمَا كَانَ نَظِيرًا لَهَا مِنْ سَائِرِ سُوَرِ الْفُرْقَانِ‏.‏ وَذَلِكَ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَاَلََِغََةُ وَالْحُجَّةُ الْكَامِلَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى زُهْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏إِِذَا قَالَ الْعَبْدُ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏"‏، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏حَمِدَنِي عَبْدِي ‏"‏‏.‏ وَإِِذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ‏"‏‏.‏ وَإِِذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏مَجَّدَنِي عَبْدِي‏.‏ فَهَذَا لِي ‏"‏‏.‏ وَإِِذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏إِِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏"‏ إِِلَى أَنْ يَخْتِمَ السُّورَةَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏فَذَاكَ لَهُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبَدَةُ، عَنِ ابْنِ إِِسْحَاقَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ إِِذَا قَالَ الْعَبْدُ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ الْمِرْوَزِيَّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعَّبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(‏قَسَمَتِ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلَهُ مَا سَأَلَ ‏"‏‏.‏ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏"‏قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏"‏حَمِدَنِي عَبْدِي ‏"‏، وَإِذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ‏"‏، وَإِذَا قَالَ‏:‏ ‏"‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّين‏"‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏مَجَّدَنِي عَبْدِي ‏"‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏هَذَا لِي، و مَا بَقِيَ‏)‏‏.‏ ‏"‏آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ ‏"‏‏.‏